فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى}.
طوي ما بين نداء الله إياه وبين حضوره عند فرعون من الأحداث لعدم تعلق العبرة به.
وأسند المجيء بالآيات إلى موسى عليه السلام وحده دون هارون لأنه الرسول الأصلي الذي تأتي المعجزات على يديه بخلاف قوله: {فاذهبا بآياتنا} في سورة الشعراء (15)، وقوله: {بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [القصص: 35] إذ جعل تعلق الآيات بضميريها لأن معنى الملابسة معنى متسع فالمصاحب لصاحب الآيات هو ملابس له.
والآيات البينات هي خوارق العادات التي أظهرها، أي جاءهم بها آية بعد آية في مواقع مختلفة، قالوا عند كل آية {ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} والمفترى: المكذوب.
ومعنى كونها سحرًا مكذوبًا أنه مكذوب ادعاء أنه من عند الله وإخفاء كونه سحرًا.
والإشارة في قوله: {وما سمعنا بهذا} إلى ادعاء الرسالة من عند الله لأن ذلك هو الذي يسمع وأما الآيات فلا تسمع.
فمرجع اسمي الإشارة مختلف، أي ما سمعنا من يدعو آباءنا إلى مثل ما تدعو إليه فالكلام على حذف مضاف دل عليه حرف الظرفية، أي في زمن آبائنا.
وقد جعلوا انتفاء بلوغ مثل هذه الدعوة إلى آبائهم حتى تصل إليهم بواسطة آبائهم الأولين، دليلًا على بطلانها وذلك آخر ملجأ يلجأ إليه المحجوج المغلوب حين لا يجد ما يدفع به الحق بدليل مقبول فيفزع إلى مثل هذه التلفيقات والمباهتات.
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)}.
لما قالوا قولًا صريحًا في تكذيبه واستظهروا على قولهم بأن ما جاء به موسى شيء من علمه آباؤهم أجاب موسى كلامهم بمثله في تأييد صدقه فإنه يعلمه الله، فما عِلْمُ آبائهم في جانب عِلْم الله بشيء، فلما تمسكوا بعلم آبائهم تمسك موسى بعلم الله تعالى، فقد احتج موسى بنفسه ولم يكل ذلك إلى هارون.
وكان مقتضى الاستعمال أن يُحكى كلام موسى بفعل القول غير معطوف بالواو شأن حكاية المحاورات كما قدمناه غير مرة، فخولف ذلك هنا بمجيء حرف العطف في قراءة الجمهور غير ابن كثير لأنه قصد هنا التوازن بين حجة ملأ فرعون وحجة موسى، ليظهر للسامع التفاوت بينهما في مصادفة الحق ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر، وبضدها تتبين الأشياء، فلهذا عطفت الجملة جريًا على الأصل غير الغالب للتنبيه على أن فيه خصوصية غير المعهودة في مثله فتكون معرفة التفاوت بين المحتجين مُحالة على النظر في معناهما.
وقرأ ابن كثير {قال موسى} بدون واو وهي مرسومة في مصحف أهل مكة بدون واو على أصل حكاية المحاورات وقد حصل من مجموع القراءتين الوفاء بحق الخصوصيتين من مقتضى حالي الحكاية.
وعبر عن الله بوصف الربوبية مضافًا إلى ضميره للتنصيص على أن الذي يعلم الحق هو الإله الحق لا آلهتهم المزعومة.
ويظهر أن القبط لم يكن في لغتهم اسم على الرب واجب الوجود الحق ولكن أسماء آلهة مزعومة.
وعبر في جانب {من جاء بالهدى} بفعل المضي وفي جانب {من تكون له عاقبة الدار} بالمضارع لأن المجيء بالهُدى المحقق والمزعوم أمر قد تحقق ومضى سواء كان الجائي به موسى أم آباؤهم الأولون وعلماؤهم.
وأما كيان عاقبة الدار لمن فمرجو لما يظهر بعد.
ففي قوله: {ربي أعلم بمن جاء بالهدى} إشهادٌ لله تعالى وكلام منصف، أي ربي أعلم بتعيين الجائي بالهدى أنحن أم أنتم على نحو قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24].
وفي قوله: {ومن تكون له عاقبة الدار} تفويض إلى ما سيظهر من نصر أحد الفريقين على الآخر وهو تعريض بالوعيد بسوء عاقبتهم.
و{عاقبة الدار} كلمة جرت مجرى المثل في خاتمة الخير بعد المشقة تشبيهًا لعامل العمل بالسائر المنتجع إذا صادف دار خصب واستقرّ بها وقال الحمد لله الذي أحلّنا دار المُقامة من فضله.
فأصل عاقبة الدار: الدار العاقبة.
فأضيفت الصفة إلى موصوفها.
والعاقبة: هي الحالة العاقبة، أي التي تعقب، أي تجيء عقب غيرها، فيؤذن هذا اللفظ بتبدل حال إلى ما هو خير، فلذلك لا تطلق إلا على العاقبة المحمودة.
وقد تقدم في سورة [الأنعام: 135] قوله: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} وفي سورة [الرعد: 22] قوله: {أولئك لهم عقبى الدار} وقوله: {وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار} [الرعد: 42].
وقرأ الجمهور {تكون} بالمثناة الفوقية على أصل تأنيث لفظ {عاقبة الدار} وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية على الخيار في فعل الفاعل المجازيّ التأنيث.
وأيد ذلك كله بجملة {إنه لا يفلح الظالمون} دلالة على ثقته بأنه على الحق وذلك يفُتّ من أعضادهم، ويلقي رعب الشك في النجاة في قلوبهم.
وضمير {إنه} ضمير الشأن لأن الجملة بعده ذات معنى له شأن وخطر. اهـ.

.قال الشعراوي:

ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُم موسى بِآيَاتِنَا}.
قوله تعالى: {بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} [القصص: 36] أي: بمعجزاتنا واضحات باهرات، فلما بُهِتوا أمام آيات الله، وحاروا كيف يخرجون من هذا المأزق، فقد جاءهم موسى ليهدم عرش الألوهية الباطلة عند فرعون، ولم يملكوا إلا أنْ قالوا {مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} [القصص: 36].
لذلك يُعلِّم الحق- تبارك وتعالى- موسى عليه السلام مُحَاجَّة هؤلاء، فكأنه قال له: أنت مُقبل على أُنَاس متمسكين بالباطل، حريصين عليه، منتفعين من ورائه، ولابد أنْ يغضبوا إنْ قضيتَ على باطلهم، وصرفتهم عنه إلى الحق، فقد أَلِفُوا الباطل، فإنْ أخرجتَهم مما أَلِفوا إلى ما لا يألفون فلابد لك من اللين وألاَّ تُهيِّجهم حين تجمع عليهم قسوة تَرْك ما ألِفوه مع قسوة الدعوة إلى ما لم يألفوه.
ويكفي أنك ستسلبهم سلطان الألوهية الذي عاشوا في ظله، فإنْ زِدْتَ في القسوة عليهم ولّدْتَ عندهم لددًا وعنادًا في الخصومة.
لذلك قال تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} [طه: 44] يعني: اعذروه فيما يلاقي حين تُسلَب منه ألوهيته، ويصير واحدًا من الرعية.
وإنْ قابلوك هم بالقسوة حين قالوا: {مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} [القصص: 36] فقابلهم أنت باللين.
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)}.
وتأمل هنا اللين وأدب الجدل عند موسى- عليه السلام- فلم يرد عليهم بالقسوة التي سمعها منهم ولم يتهمهم كما اتهموه، إنما ردّ بهذا الأسلوب اللَّبِق، وبهذا الإيحاء: {ربي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} [القصص: 37] ولم يقُلْ: إني جئت بالهدى.
ثم قال: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [القصص: 37] سواء كنا نحن أم أنتم، ولم يقُلْ: أنتم الظالمون، لقد أطلق القضية، وترك للعقول أنْ تميز.
ومعنى {عَاقِبَةُ الدار} [القصص: 37] الدار يعني: الدنيا وعاقبتها تعني: الآخرة.
وهذا الأدب النبوي في الجدل والحوار رأيناه في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة والمعاندين له، وقد خاطبه ربه: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
والعلَّة أنك ستُخرجهم من الباطل الذي أحبوه وأَلفوه إلى الحق الذي يكرهون، فلا تجمع عليهم شدتين، لذلك في أشد ما كان إيذاء الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».
ورحم الله شوقي الذي صاغ هذه المسألة في عبارة موجزة فقال: النُّصْح ثقيل فلا ترسله جبلًا، ولا تجعله جدلًا، فنُصْحك معناه أنك تقول لمن أمامك: أنت على خطأ وأنا على صواب. فلكي يسمع لك لابد أنْ تستميله أولًا إليك ليقبل منك، ولا تجرح مشاعره فيزداد عنادًا ومكابرة، وما أشبه صاحب الخطأ بالمريض الذي يحتاج لمن يأخذ بيده، ويأسو مرضه.
وقد مثَّلوا لذلك بشخص يغرق، وصاحبه على الشاطيء يلومه على نزوله البحر، وهو لا يجيد السباحة، فقال له: آسِ ثم انصح انقذني أولًا وأدركني، ثم قُلْ ما شئتَ.
وقال آخر: الحقائق مُرَّة، فاستعيروا لها خِفَّة البيان.
أما إنْ يئس الناصح من استجابة المنصوح كما في قصة نبي الله نوح عليه السلام، والذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، فالأمر يختلف. فالنبي صبر على قومه علَّهم يثوبون إلى رشدهم، أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التي تقبل ما رفضه الآباء.
فما أطولَ صبر نوح على قومه، وما أعظمَ أدبه في الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه بالكذب والافتراء: {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35].
فنسب الإجرام إلى نفسه ليُسوِّي نفسه بهم لعلَّه يستميل قلوبهم، لكن، لما كان في علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، ولا فائدة منهم، ولا من أجيالهم المتعاقبة، وبعد أنْ قضى نوح في دعوتهم هذا العمر المديد أمره الله أن يدعو عليهم، حيث لا أملَ في هدايتهم، فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26- 27].
ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول في محاورته مع كفار مكة: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
سبحان الله ما هذا التواضع، وهذا الأدب الجم في استمالة القوم، ينسب الإجرام إلى نفسه وهو رسول الله، وحينما يتكلم عنهم يقول: {تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] فيُسمِّي إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملًا، ولو قال كما قال أخوه لكان تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم. اهـ.